هستيريا المحيط





جهاد الزين10 أيلول 2013

في كتابه "خيانات اللغة والصمت - تغريبتي في سجون المخابرات السورية" الصادر عن "دار الجديد" في طبعته الثانية عام 2012 بعد طبعته الأولى عام 2006 يروي فرج بيرقدار من تجربته كسجين، وهي تجربة يمكن أن تتشابه في العديد من سجون المخابرات العربية على اختلاف أنظمتها، يروي عن حالة من "الهستيريا" الجماعية تصيب فجأة سجناء أحد المهاجع من دون أي سبب مباشر عندما ينطلق فجأةً صراخُ أحد السجناء خلال الليل فيبدأ جميع السجناء في المهجع بالصراخ مثله وأيضا دون سبب مباشر ثمّ تنتقل "العدوى" إلى مهاجع السجن المجاورة.

جعلتني هذه الحادثة التي يطالبنا فرج بيرقدار في كتابه أن نصدّقها رغم غرابتها – وأنا أصدّقه - أتصوّر بلدانَنا أو بعضَها أشبهَ بـ"مهاجع" السجون التي تصيبها تلك الهستيريا المفاجئة عندما تسمع صراخ الحرب... فتعبّر مجتمعاتُها عن ذلك بـ"صراخ" جَماعي هو أقرب إلى التعبير عن السياسة كأزمة وجودية.
هكذا كان "المهجع" اللبناني في الأسبوعين المنصرمين وهكذا كان أيضا "المهجع" الأردني وربما أيضا "المهجع" العراقي أو حتى "المهجع" التركي بعدما تحوّل الصعود التركي الاقتصادي السياسي في الشرق الأوسط إلى هبوط خَطِر ينقل تركيا من "نموذج" ناجح لدول المنطقة المسلمة والعربية إلى "مهجع" آخر من "مهاجع" تخبّطها الأمني والسياسي وربما لاحقا الاقتصادي.
كانت حالة بل حالات "المهاجع" المحيطة بالجحيم السوري، وهي تستمع بشكلٍ غير مألوف إلى طبول الحرب، حالات من نوع جديد لاسيّما في لبنان. بدا اللبنانيّون "متأكّدين"(!) أن الصواريخ العملاقة التي ستضرب في سوريا والصواريخ التي سترد عليها إذا أتاح التفوق التكنولوجي الأميركي أن ترد، ستعبر فوق الجبال اللبنانية.
مسؤولون سياسيّون محلّيّون كانوا أكثر من قلقين بل هم حائرون وبعضهم "مذعور" حتى وهو ينتظر بفارغ الصبر حصول هذه الحرب فيما ذعرُ آخرين يتعلّق بنتائجها على مصيرهم. كانت "الهستيريا" تتناول بشكل جدي ليس فقط الأسئلة العسكرية بل أيضا تفاصيلها وفي مكاتب المسؤولين الرسميّين على اختلاف مستوياتهم:
كيف سيكون وضع مطار بيروت المنفذ الوحيد الباقي عمليا لـ"الهروب" من لبنان الجحيم السوري؟
كيف سيكون الرد الإسرائيلي على "صواريخ حزب الله" إذا شاركتْ في لحظة من لحظات الحرب؟ هل يستعاد سيناريو 2006 فتضرب إسرائيل مناطق سيطرة "حزب الله" أم تضرب مناطق أخرى لاسيما شبكات الخدمات الأساسية ومراكز الدولة داخل العاصمة وهو الأمر الذي لم يحدث عام 2006 في ما سُمّي يومها "الضمانات الأميركية لحكومة فؤاد السنيورة"؟ ومن يملك أن يعيد هذه "الضمانات" إنما هذه المرة بتحييد كل لبنان إذا كانت إسرائيل ستصبح طرفا في الحرب مع أن السفير الأميركي الجديد أشار إلى شيء من هذا القبيل، أي تجنيب لبنان، لأنه التقط أو سمع مباشرة بعض تعبيرات هذه "الهستيريا" المحلية؟ (وهذه معلومات لا مجرّد تقديرات).
ليست دائما مصطلحات "الهستيريا" مقتصرة على الدول الصغيرة أمام قرع دول كبرى لطبول الحرب. فجيمس بايكر وزير الخارجية الأميركي الأسبق في مذكّراته يقول أنه قال مرة في إحدى جولات المفاوضات قبل الهجوم على الجيش العراقي عام 1991 الذي كان يحتل الكويت... قال لطارق عزيز وزير خارجية العراق يومها ردا على تصلّب الشروط العراقية: "هل لديك فكرة سيادة الوزير عمّا ينتظركم لو وقعت الحرب؟ لدينا إمكانات تعيد العراق إلى العصر الحجري".
"العصر الحجري"! التعبير "هستيري" حتى لو تحقّق لاحقا في العراق. لكن في "المهجع" اللبناني وبعض "المهاجع" المحيطة بالجحيم السوري، جحيم الحرب الأهلية، لا زال الجمهور العادي يسأل هل تكون هذه الحرب مختلفة من حيث نوع المشاركين فيها هذه المرة؟ ولا فرق بينه وبين المسؤولين الرسميّين في الدولة الصغيرة من حيث التكهنات والشعور بالعجز فالجميع في لحظة صراع بهذا الحجم سجناء في مهجع واحد.
تقليديا وبسبب كثافة الحضور الإيراني يميل عديدون إلى انتظار رد الفعل المختلف من الجهة الإيرانية. وقد، أهمل المعلّقون السياسيّون طويلاً، الدور الروسي مع أنّه، ردعاً سياسيا أو دعماً عسكرياً، أهمُّ بأشواط من الدور الإيراني. لم يكفّ العديد من السياسيّين والمعلّقين في السنة الأولى للحرب السورية عن انتظار "صفقة" يبيع فيها الروس النظام السوري. ازداد تصلّب الموقف الروسي الداعم للنظام السوري ولم يكف هؤلاء عن توقّع تخلّي الروس عنه. وعندما كان تصريحٌ ملتبسٌ أو تكتيكيٌّ للرئيس الروسي يظهر، كان هذا "التيار" المنتظر لصفقة روسية على حساب النظام السوري، يجدّد توقعاته لينصدم بتصريح جديد متصلّب .
"الهستيريا" الجماعية في "المهجع" اللبناني كانت تعبّر عن نفسها بأشكال مختلفة في مطار بيروت الذي تحوّل إلى مثل "المستشفى" في فيلم "طيران فوق عش الكوكو" ومثل "الحارة" في رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ ورصيف مرفأ باهيا في قصة "العم كينكاس يموت مرّتين" لجورج أمادو... تحوّل إلى المنفذ الأعلى لـ"الهستيريا الوجودية" في "المهجع" اللبناني.
 

Latest Comments


Post a Comment

Name *
Email
Comment *