صحيح أن حشدا لا بأس به، أتى ليشاهد «افتتاح» مهرجانات بعلبك الدولية، إلا أنك لا بدّ أن تشعر بوجوم ما وبحزن يرفرف على الحاضرين. ربما لأن الانفعال مع الحفل بقي ضعيفا بعض الشيء، على العكس ممّا تثيره عادة موسيقى الجاز من احتفالية بين الحاضرين. ثمة حياء تشعر به، حياء تموضع عميقا، على الأقل لأن الناس لم تكن قد نسيت بعد أخبار انفجاري طرابلس (نهارا)، فجاء الخفر، والكثير من التساؤلات عن «لمَ لم يتم إلغاء الحفل؟». حتى اللحظات الأخيرة، كان ثمة اتجاه لإلغائه، إلا أن المشرفين على المهرجان، قرروا في اللحظة الأخيرة الاستمرار بالافتتاح بعد أن تلاشت الحفلات الثلاث الأولى، مثلما «تلاشى» المكان الأساسي، وكأن دقيقة الصمت التي افتتح بها الحفل، لم تكن فقط على الراحلين والضحايا، إذ شعرت أنها على من تبقى على قيد الحياة أيضا في ظل هذه المشاهد الدامية التي تلفنا.
كلّنا نعرف أن مكان مهرجانات بعلبك تمّ تغييره هذه السنة، فبدلا من القلعة البقاعية الشهيرة، هبطنا إلى القرب من بيروت، إلى سدّ البوشرية، حيث «خان الحرير» القديم. صحيح أن لا شيء يوازي مهابة وجلالة مدينة الشمس، إلا أن ثمة حسنة وحيدة، إذا جاز القول في تبديل الأمكنة: اكتشافنا لمكان جميل، لم يكن قسم كبير من الزائرين يعرفونه، فاكتشفوا بناء على قدر كبير من الهندسة الجميلة، التي أعيد ترميمها، لدرجة أنك تتساءل كيف نجا هذا العقار من الهدم، في ظلّ ما نشهده من تدمير للكثير من الأمكنة التراثية.
في أي حال، كل شيء يتبدل. ليس فقط أن تكون بعلبك في بيروت، وأن يُرمز إليها بملصق ضخم (صورة) علق على أحد الجدران الداخلية لخان الحرير، إذ أنّ ما نمرّ به اليوم من أحداث، قد يبدل الخرائط والشعوب وقد تصبح البلدان جزءا من تاريخ بدون جغرافيا حقيقية.
إلا أن الجغرافيا الحاضرة أمس، كانت الموسيقى الآتية من البرازيل مع المؤلفة والعازفة والمغنية إلياني إلياس (وفرقتها المؤلفة من مارك جونسون «باص» وروبنز دو لا كورت «غيتار» ورافاييل باراتا «باتري»)، لتحملنا معها إلى عبق تاريخ موسيقي كبير، يتمثل في جاز «البوسا نوفا» وهي الموسيقى التي عرفت فورتها في البرازيل، في فترة ما بعد منتصف القرن الماضي، على أيدي حفنة من الموسيقيين الكبار مثال جيلبرتو جيل وجوان جيلبرتو وأنطونيو كارلوس جوبيم وأستورد جيلبرتو وغيرهم ممن عرفوا كيف يخرجون هذه الموسيقى من محليتها لتصبح واقعا في العالم بأسره. إذ نجحوا في أسلوبهم هذا، بأن يمزجوا ما بين «السامبا» وبين «الكول جاز»، وقد جاءت التسمية بالبرتغالية لتعني «بوسا» (ميل أو نزعة) و«نوفا» (جديد). أي ثمة ميل إلى تقديم موسيقى جديدة، سرعان ما انتشرت ليصبح مريدوها كثرا في بلدان العالم، حيث لم تشكل اللغة البرتغالية عائقا أمام المستمعين.
إلياني إلياس، لا تشذ عن هذا السياق، من حيث أنها تشكل استمرارا حقيقيا لتلك الكوكبة من الموسيقيين، وفي أي حال، فقد استعادت أمس، في حفلها اللبناني اليتيم، الكثير من أغاني وموسيقى من سبقوها، من دون أن ننسى بالطبع، لمستها الخاصة في التقديم والاستعادة التي تذكرنا (لمن يعرف بالتأكيد) بتوكينيو (أحد رواد الجاز البرازيلي)، كما لمستها في أغانيها الخاصة التي تحاول أن تفرد أكثر في اللعب على البيانو، مثلما تحاول أن تفسح في المجال لباقي الفرقة في أن ينحو كل عازف إلى تفريده الخاص.
مطربة متكاملة، عازفة بيانو اعترف الجميع بمهارة عزفها، مؤلفة متميزة، إذ كل شيء يدفعها لأن تكون صاحبة «سلطة» موسيقية، استطاعت أن تعزف مع كبار عصرها في البرازيل وفي الولايات المتحدة، فتعاونها مع هانكوك لا يزال حاضرا في ذهن محبي الجاز في العالم.
حفل كبير كنّا نتمنى أن يأتي في سياق بعيد عما نشاهده من سياق الجنون والموت والرعب اليومي الذي نعيشه. ولا أعرف إن كانت كلمة هي الحياة التي ستستمر، تنفع في مجال مماثل.
جريدة السفير: 24/8/2013
.