البدايـات المجهــــولــة للرحابنة وفيروز

 
محمود الزيباوي
الجمعة 25 حزيران (يونيو) 2010
  

توفي عاصي الرحباني في 21 حزيران 1986 عن ثلاثة وستين عاما، فانطوت برحيله رحلة فنية شهدت انطلاقتها الاحترافية في الإذاعة اللبنانية بعد بدايات اولى في انطلياس وبعض المرابع البيروتية. لا نملك أيّ توثيق علمي لتلك البدايات، وما نعرفه عنها وصلنا من طريق أحاديث أدلى بها شقيقه منصور في خريف عمره. هنا محاولة لاستكشاف هذه البدايات من خلال بعض المصادر الصحافية التي تعود إلى عامي 1948-1949.


كما بات معروفا اليوم، بدأ الرحبانيان مشوارهما الفني في منتصف الأربعينات، وتفرغا له تفرغا تاما بعد سنوات. عُيّن عاصي بوليسا في بلدية انطلياس عام 1938، وعُيّن منصور شرطيا قضائيا في بيروت عام 1939، ولم يحل ذلك دون دخولهما عالم الموسيقى والشعر والغناء. بعدما تسلّم فؤاد قاسم إدارة الإذاعة اللبنانية في عام 1948، وُظّف عاصي كعازف كمان وملحّن أركان، والركن في القاموس الإذاعي يتألف من أربع أغنيات. دخل منصور الإذاعة بعد خمس سنوات، وجاء في خبر نقلته مجلة "الصياد" في كانون الثاني من عام 1953: "ترك السيد منصور رحباني عمله في البوليس وانصرف الى مشاركة شقيقه عاصي في التأليف والتلحين".


بحسب ما نقله نبيل أبو مراد عن منصور في خريف عمره، شقّ الرحبانيان طريقهما بصعوبة عند دخولهما الإذاعة اللبنانية. "جاءت التعابير الرحبانية غير مألوفة للأذن، ولاقت عدم الترحيب، حتى أن كورس الإذاعة آنذاك رفض أن يغنّي لهما، كما صعب عليهما إيجاد مطربة تؤدي كلماتهما هذه، فما كان منهما إلا أن استعانا بشقيقتهما سلوى وأعطياها إسما مستعارا هو نجوى، فصارت تؤدي أغنياتهما في الإذاعة وذلك في الفترة التي كان البثّ فيها حيا ومباشرا ومن دون تسجيل مسبق. كما تعاونا مع أصوات نسائية أخرى اشتهرت في زمانها لكنها اليوم باتت منسية مثل اللبنانية حنان والسورية كروان".

الخطوات الأولى

متى بدأ الرحبانيان بتقديم وصلاتهما في الإذاعة بالتحديد؟ يصعب الإجابة عن هذا السؤال بشكل دقيق نظرا الى غياب الوثائق التي تعود إلى تلك الفترة، وتبقى جداول برامج الإذاعة المنشورة في المجلات خير مصدر لاستكشافها، منها مجلة "الإذاعة" الأسبوعية التي أشرف على إدارتها فايق خوري. أقدم ما وصلنا إليه في هذا البحث، إشارة ترد في جدول برامج يوم الجمعة 19 آذار 1984، وفيها "ثنائي رحباني ميقاتي" من الساعة الثانية عشرة وخمس وأربعين دقيقة إلى الساعة الأولى بعد الظهر، ونفهم من خلال هذه الإشارة أن الإذاعة خصصت ربع ساعة لفقرة موسيقية يؤديها عاصي رحباني على الكمان مع بهيج ميقاتي على العود. نقع على إشارة ثانية في جدول الجمعة 2 نيسان، وفيها في الموعد نفسه "ثنائي شويتي ورحباني"، والأول هو عازف العود قسطنطين شويتي.


تتبدّل الحال بعد أسبوع حيث نقع على "فرقة الرحباني في أغان منوعة" من التاسعة والأربعين دقيقة إلى الساعة العاشرة. يتحول هذا الموعد برنامجاً أسبوعياً في الموعد الصباحي نفسه تقريبا، لكننا لا نجد أي تعريف بأعضاء هذه الفرقة، كما أننا لا نملك أي تحديد وافٍ لمادة البرنامج، فهو في أيار "حفلة منوعة من روائع الموسيقى"، وهو في حزيران "برنامج غنائي"، ثم "تمثيلية لفرقة الرحباني". خارج الجداول الأسبوعية الخاصة ببرامج الإذاعات، يرد ذكر اسم "رحباني" في خبر يُعلن عن حفلة موسيقية غنائية يقيمها الأستاذ خليل مكنية في منتدى "وست هول" في الجامعة الأميركية، في 31 كانون الثاني 1948، وفي الخبر: "يشترك فيها معه (أي مكنية) السيد توفيق الباشا في عزفه وألحانه وفرقة رحباني في اسكتش غنائي، كما يغنّي السيد فرحات هاشم قصيدتين لعلي محمود طه وموسى سليمان وتغنّي الآنسة نازك قصيدة من نظم سلام فاخوري".

ثلاثي رحباني

يتردد ذكر اسم "رحباني" في جداول البرامج في عام 1949، واللافت هنا اسم الفرقة "ثلاثي رحباني" في بعض الأحيان، إضافة إلى ظهور اسم المطربة نجوى، أي سلوى رحباني، شقيقة عاصي ومنصور. في شهر آب، تتحول الإطلالة الرحبانية موعداً أسبوعياً، في فقرة من ربع ساعة، نهار الأربعاء، في الثامنة إلا ربع مساءً. على سبيل المثال، "ثلاثي رحباني في حفلة غنائية" في 17 آب، ونجوى في ثلاث أغنيات في 24 آب، "لا تنسني"، "يا ساحر العينين"، و"مهى". نقع من جديد على "ثلاثي رحباني في حفلة منوعة" في 31 آب، ثم نجوى في ثلاث أغنيات في 6 أيلول، "حبيبي من لبنان"، "ولا تحيينا"، و"سلام المحب". في 5 تشرين الأول، نجد "نجوى في حفلة غنائية"، وفي 26 تشرين الأول "فرقة الرحباني في حفلة غنائية"، ثم "ثلاثي رحباني في برنامج غنائي خاص"، وبعدها "نجوى في حفلة غنائية".

خارج هذا الموعد الأسبوعي، تطالعنا مشاركة رحبانية لمناسبة احتفال الإذاعة بـ"تجديد ولاية الرئيس بشارة الخوري" في 18 أيلول، وتتمثل هذه المشاركة بقصيدة من توقيع الأخوين رحباني لحّنها وغنّاها المطرب المصري محمد أمين، إضافة إلى برنامج غنائي مدته ربع ساعة أحيته نجوى، يتألف من "تجديد الولاء"، "أنت يا بلادنا" و"تحية الرئيس". بعد تقديم هذا البرنامج، كتبت مجلة "الإذاعة": "قال صديقنا الأستاذ عبد الله المشنوق في زاوية "اقرأ على مسؤوليتي" في الزميلة "بيروت المساء" إن معزوفة "لبنان يا لبنان" للأخوين رحباني التي أُذيعت في برنامج عيد تجديد ولاية فخامة الرئيس الجمهورية كانت من أجمل ما أُذيع من المحطة، وأضاف أن الأخوين رحباني هما بحق المجددان الوحيدان في الموسيقى الشرقية". يمكن القول إن هذه الشهادة من أقدم ما قيل في تجديد الأخوين رحباني.


في المقابل، نشرت المجلة ضمن نطاق "بريد القراء" شهادات تعكس إعجاب بعض المستمعين بنجوى. في واحدة من هذه الشهادات، كتبت المجلة: "يطلب إلينا السيد جوزف وديع الطيار من الشياح نشر رسم المطربة الآنسة نجوى على صفحات "الإذاعة"، وقد رغبنا إلى الآنسة نجوى أن نحقق هذا الطلب فاعتذرت لاعتبارات عائلية، ونحن بدورنا نعتذر إلى القارئ ونرجو أن يكتفي بسماع صوتها الجميل في الوقت الحاضر". وجاء في شهادة أخرى حملت توقيع ع. ج. من بيروت: "في صوتك صفاء وحنو وشجو، وأداؤك للأغنية لا يجاريك فيه أحد براعة ومقدرة وتصويرا، لي خمس شقيقات لا تزيد سن كبيرتهن على العاشرة، يترقبن أغانيك وحفلاتك، ويجلسن إلى الراديو في موعد إذاعتك وهن في سكون عميق ونشوة شاملة حتى إذا انتهيت من الغناء صفقن لك مرحا وطربا. إن اللون الذي تغنينه يمثل اللون التقدمي في الموسيقى العربية، فلِمَ لا تنطلقين في أجواء الفن، ولِمَ لا تتيحين للجمهور فرصة رؤيتك عن كثب في حفلات مسرحية. وعلى الأقل لِمَ لا تُنشر صورتك في مجلة الإذاعة ليرى جمهور المستمعين وجه المطربة التي تغلغل صوتها في أعماقه". ويبدو أن المعجب جوزف الطيار عاد وأرسل رسما تخطيطيا لاسم نجوى نشرته المجلة، وقالت في تعليقها إن هذا الرسم في اعتقاد المعجب "أفضل من كلمات الاطراء والمديح وأبيات الاعجاب والثناء"، وهو مُهدى إلى نجوى "بواسطة الإذاعة، لمناسبة الأعياد المباركة". وأضافت المجلة: "ننقل هذا الرسم، أو الهدية على الأصح، بدورنا إلى المطربة نجوى، عساها تكتشف ما في هذا الإعجاب من رموز وأسرار". في مقابل هذه الشهادات، تحدث منصور عن صوت شقيقته عند استعادته مرحلة البدايات في حديث آخر، وقال: "لم يكن صوتها خارقاً، لكنه كان مقبولا ومعتدلا يميل إلى الجمال".


لا نجد في أرشيف "إذاعة لبنان" أي تسجيل باسم نجوى، مما يوحي بأن هذه الوصلات كانت تُبَثّ بشكل حيّ، ولا تُسجَّل، كما ذكر منصور رحباني مراراً بعد عقود. تذكر جداول مجلة "الإذاعة" عددا من عناوين الأغنيات التي غنّتها نجوى، منها أغان أدّتها فيروز في مرحلة لاحقة، وهي: "لا تنسني"،" يا ساحر العينين"، "مهى"، "ولا تحيينا"، و"سلام المحب". "لا تنسني" معروفة في تسجيل يعود إلى عام 1955 في أقل تقدير، أي إلى مرحلة اختمرت فيها التجربة الرحبانية في التوزيع وأخذ فيها صوت فيروز هويته المعروفة. أما "يا ساحر العينين" و"مهى" فنعرفهما في تسجيل أول بصوتَي فيروز وحنان معا في مرحلة البدايات، أي بين عام 1951 وعام 1952، ونعرفهما بصوت فيروز وحدها في تسجيل ثان يعود إلى ما بعد عام 1955، أي إلى مرحلة الاختمار. الفرق بين المرحلتين هائل، مع العلم بأن اللحن لم يتغير والكلمات لم تتبدل. جاء التحول عبر التوزيع والإخراج الموسيقي كما في أداء فيروز، وبدت الصياغة الأولى "ركيكة" مقارنة مع الصياغة الثانية. "لا تحيينا" هي على الأرجح "ترمقنا لينا"، معروفة بتسجيل يعود إلى المرحلة الثانية. أما "سلام المحب"، فهي "يا من تقصد جناتنا"، مسجلة بصوتَي فيروز وحنان في مرحلة البدايات، وهي من الأغاني الراقصة التي دأب الأخوان رحباني على إنتاجها في تلك الحقبة.


يغيب اسم "الأخوان رحباني" عن الجداول، لكنه يحضر مع بعض نصوص الأغاني التي نشرتها مجلة "الإذاعة" في عام 1949، مما يعني أن هذا الاسم الجامع اعتُمد منذ البداية. في المقابل، يبدو للوهلة الأولى أن اسم "ثلاثي رحباني" يضم عاصي ومنصور وشقيقتهما سلوى التي عُرفت باسم نجوى، لكننا نجد إجابة أخرى في حديث لتوفيق الباشا نقله محمود غزالة في نهاية التسعينات، وفيه يقول: "أما بالنسبة إلى اللقاء مع الأخوين رحباني فكان عرّابه كذلك خليل مكنية، ففي أحد الأيام جاءنا بخبر أنه اكتشف شابين يقدّمان الأغاني الخفيفة المرحة، يعزفان ويغنّيان، ولا يلتزمان الأنماط الغنائية السائدة، وقد اكتشف فيهما طموحاً إلى الأفضل، ودعانا أنا وزكي ناصيف أن نلتقي بهما. تمّ اللقاء في كازينو سعادة على الدورة، حيث كانا مع صديق لهما هو فرحات الهاشم يؤلفون "ثلاثي رحباني"، يقدمون الأغاني الخفيفة، وكان الثلاثي يعزف ويغنّي في وقت واحد، عاصي على الكمان ومنصور على البزق، وفرحات على الكمان، وهو يتمتع بصوت أجمل من صوتيهما".


بحسب ما ذكره نبيل أبو مراد نقلاً عن منصور، تعاون الرحبانيان "مع أصوات نسائية أخرى اشتهرت في زمانها لكنها اليوم باتت منسية مثل اللبنانية حنان والسورية كروان". لا نجد في أرشيف الإذاعة أغاني رحبانية بصوت حنان منفردة، بل مجموعة من الأغاني الراقصة غنّتها بشكل ثنائي مع فيروز. في المقابل، نقع على بضع أغان رحبانية بصوت كروان، منها "موطن الجمال"، "درب الحبيب"، "كلمات العاشقين"، والأخيرة من كلمات إلياس بركات. وقد أعاد الرحبانيان تسجيل "درب الحبيب"، "كلمات العاشقين" بصوت فيروز بعد فترة وجيزة كما يبدو، نظرا الى تقارب التسجيلين من حيث التوزيع والإخراج الموسيقي. تجدر الملاحظة هنا أن فيروز غنّت مع كروان، كما غنّت مع حنان، في بداية مشوارها، وفي دفاتر الإذاعة أغنيتان على الأقل بصوت "فيروز وكروان". عنوان الأولى "لمّا كنا صغار"، وعنوان الثانية "بس انت قول"، وهما مفقودتان. كذلك يرد اسم كروان في عدد من اللوحات الغنائية سُجّلت بين عام 1952 وعام 1955، وبعضٌ منها محفوظ في إذاعة بيروت وإذاعة دمشق.


التحوّل الكبير

بدأ الرحبانيان مشوارهما في الإذاعة اللبنانية عام 1948، وشكّل دخول فيروز هذه الحلقة تحولا جذريا في هذه التجربة. تتضارب الأحاديث حول تاريخ بداية هذا التعاون، ويتطلب التطرّق إلى هذا الموضوع بحثا مستقلا. من المؤكد أن التعاون تحوّل شراكة كاملة منذ عام 1952، وأنّ صوت فيروز بات صوت الأخوين رحباني منذ تلك الفترة. في أيلول 1955، خصّت مجلة "الصياد" عاصي ببطاقة تعريف ضمن زاوية ثابتة عنوانها "أرشيف الفن"، وممّا جاء فيها: "زوج فيروز. بدأ حياته مزارعا ثم شرطيا ثم مونولوجست على مسارح الضيعة. أستاذه الموسيقي الأول الأب بولس الأشقر. وأستاذه الثاني البروفسور روبيار. وأستاذه الثالث فنّه الفطري الجميل. انتقل عام 1947 (والأصحّ 1948) من مسارح الدورة ليغنّي في محطة بيروت، راديو الشرق آنذاك، مع شقيقه منصور وشقيقته نجوى المقطوعات ذات الثلاثة أصوات (بوليفوني). صاحب مدرسة حديثة في الشعر اللبناني والأغنية الخفيفة. فنان مقتبس، وصادق في فنه واقتباسه. لمع قبل اكتشاف فيروز بسنتين، ولما ظهرت فيروز اتسع مجال النشاط والإنتاج والشهرة إلى أضعاف ما كانت عليه


 

Latest Comments


Post a Comment

Name *
Email
Comment *