الطريق الى الطاحون

جريدة السفير
 
لا يمكن لعاقل أن يحاجج ميشال عون في مكافحته «حمّى التمديد». سواء للمقاعد الـ128 التي «خُطف» منها «نَفَس» التغيير، أم للموقع العسكري الأول الموضوع على خط نار الفراغ.. وحين يصل «الموسى» إلى ذقن الرئاسة الأولى، لن يكون المشهد أقل ضراوة.
حجته «على راس السطح». التمديد أبغض حلال المسار المؤسساتي. خيار قاتل لما تبقى من ديموقراطية، ولو في زمن الصعوبات المستحيلة. خطاب «ذهبي» لا تشوبه شائبة. كافح الرجل «لعنة» تعطيل الانتخابات النيابية حتى الرمق الأخير، وباعتقاده أنّ صموده متسلحاً بممانعة البصم على سنتين إضافيتين لبرلمان الـ2009، قد يوقف تسونامي «الشلل المقصود» بفعل فاعل. كما وقف وحيداً في ساحة المناداة باحترام تداول السلطة في الكرسي الماروني الثاني في الدولة.. ولكن من دون جدوى.
باستطاع خصومه، كما حلفاؤه، أن ينقّبوا في ثنايا معارضته عن خلفيات شخصية وعائلية تحرّض «الجنرال الثائر» على التغريد خارج سرب الطبقة السياسية برمتها. لكن، بالتأكيد، لن يتجرأّ أي منهم في مواجهته «العين بالعين» ليثبتوا أنّه «يغلّط» في طرحه أو يسيء لأبسط مبادئ تداول السلطة في كلامه.
ومع ذلك، يخسر الجنرال معاركه. أو أقله، هكذا تصوّر نهاياتها. مواجهتان صعبتان كلّفتاه اهتزازاً بُنوياً في علاقته مح حلفائه. مع الرئس نبيه بري وسليمان فرنجية و«الطاشناق».. وحتى مع «حزب الله» لم تسلم الجرّة. هؤلاء جميعاً مقتنعون بأنّ النظام اللبناني مأزوم.
ولكن اختلاف المقاربات يضعهم على مفترق طريق. وحده ميشال عون لا يقنع بالمسكنات، ويعتقد أنّ كل لحظة تشكلّ بحد ذاتها فرصة لتغيير الواقع ويفترض الاستفادة منها، ولا حاجة لانتظار قطار الانقلابات الإقليمية لتحسين شروط التفاوض.
بينما حلفاؤه يميلون إلى القراءة الثانية. الاستفادة من الوقت، من باب تحديد الخسائر وتقليصها، هو أفضل الخيارات المتاحة في اللحظة الراهنة، بانتظار وصول قطار التغيير ليستقله الجميع. الأكيد أنّ ميشال عون لا يخشى أن يفلت «حزب الله» يده في تلك المحطة المصيرية. ولكن حتى تدق ساعتها، يختلف الأسلوب بين الفريقين.
إذاً ثمة تباين فاقع حول إدارة الأزمة. واحد من جوانب هذه الأزمة يتجلى في سوء التنسيق بين مكونات هذا الفريق، فضلاً عن ضعف قنوات الحوار، إن لم نقل غيابها أحياناً، حيث يتمّ التعامل مع المشاكل في موضعها، فتحلّ في حينه على طريقة «الترقيع» و«تبويس اللحى» و«التمرير» بحكم المودة الشخصية. ويغيب عن بالهم جميعاً وضع آلية جديّة للعمل، توفر عليهم مشقة الخلاف والتراشق على المنابر الإعلامية.
ثمة جانب آخر من مكامن الخلل، طفا أخيراً على وجه التطورات: «استسلام الإقناع». فشل الجنرال في إقناع الجالسين قبالته الى طاولة التفاهم بضرورة إجراء الانتخابات، وأصرّ على خوض التحدي حتى بحّ صوته، وكُتم صوت المجلس الدستوري، ورفع الجنرال راية الاستسلام أمام القوى التمديدية. في المقابل عجز شركاؤه عن إقناعه بحيثيات التمديد وأهميته.. وحصل الافتراق.
هنا، يأخذ الحلفاء على ميشال عون إصراره على البقاء في ساحة الحرب منفرداً، بعدما تتقطع سبل الإقناع معهم. والخلاف حول الانتخابات النيابية نموذج فاقع. صحيح أنّ تفاهماً استراتيجياً حماهم من غدرات التقلّبات منذ العام 2006، ولكن بدت أحياناً خارطة طريقهم مسكونة بشياطين التفاصيل.
أما الوجه الآخر لأزمة العلاقة، فيكمن في غياب الحلول البديلة. ضرب ميشال عون يده على الطاولة، مقفلاً أذنيه عن كل سيناريوهات التمديد. لا يريد أن يسمع باسم جان قهوجي بولاية متجدّدة، ويريد لجسم المؤسسة العسكرية أن ينتعش بعروق جديدة. لكن لم يضع آلية.. كيف يمكن إقناع نجيب ميقاتي بعقد جلسة لمجلس الوزراء لتعيين قائد جديد؟ وكيف يمكن تأمين أغلبية وزارية تأتي بعماد جديد إلى اليرزة؟.
أسئلة مصيرية بقيت من دون أجوبة تحوّل سيناريو التجديد إلى واقع ملموس. إذ لا يكفي أن يقف الجنرال، برأي حلفائه، حاجزاً أمام «سمّ التمديد» من دون أن يقدّم الترياق الشافي. هو يعرف جيداً أنّه لم يتمكن من تركيب الدواء المفيد لصحة المؤسسات الدستورية، ومع ذلك لم يستكن ولم يهدأ، وأصرّ على السباحة عكس التيار.. مع علمه بأنه لن يجد قارباً للنجاة يسعفه من الغرق.
هو المشهد ذاته، الناقص في فصله الأخير، انسحب على الكثير من الملفات التي تعاطى فيها «التيار الوطني الحر» مذ قضْمه تفاحة السلطة. فلا هو وجد للإصلاح طريقاً، ولا نجح في التعايش مع التركيبة الموروثة من زمن «الطائف» في نشأته الأولى. لا هو قادر على البقاء خارجها لتقديم نموذج صلب من المعارضة الكاسرة، ولا باستطاعته أن يتشاطر في «كار التسويات» التي يجيدها كل الجالسين قبالته.
وبالمعنى ذاته، أي ذلك «الانفصام» في التعاطي، تسلل الضياع إلى «التيار» بعد ثماني سنوات من ممارسة السلطة بمفوميها التشريعي والتنفيذي. ينام على خصومة شرسة مع «تيار المستقبل» مانحاً زعيمه «one way ticket»، ويستفيق على بطاقة دعوة مفتوحة لعودة الشيخ المنفي إلى دياره. بين ليلة وضحاها تتحوّل الممكلة العربية السعودية من «شيطان أكبر» إلى «كاسحة ألغام» وحاجة قصوى لا يجوز الاستغناء عن خدماتها «الإطفائية». ولأسباب، تبقى ملك صاحبها، تُنبش «خطايا» الرئيس نبيه بري ويطفو أداؤه «الميليشياوي السابق» على وجه الماء، وفجأة تخبو إلى العمق إذا صارت الحاجة لـ«أرانبه» ملحّة. تُحجب ثمار التعيينات الإدارية عن العونيين ورفاقهم بسبب الاشتباك «المجانيّ» مع الرئيس ميشال سليمان، فتضيع فرصة ذهبية لحكومة «في الجيبة»، لتعود المياه إلى مجرى العلاقة مع جنرال بعبدا في توقيت غير مفهوم.
ولكن هذا لا يعني أبداً أنّ معارك الجنرال تُدفع من جيبه. في حساباته السياسية، هو لم يخسر شيئاً حتى الآن في جولات الصراع التي خاضها بوجه الجميع. ماذا يعني لو سقط رهانه على إجراء الانتخابات في موعدها؟ فهو لا يزال في المربع ذاته، رئيس أكبر كتلة نيابية مسيحية. ماذا يعني لو فشل في رهانه على التجديد في قيادة الجيش؟.
صحيح أنّ كلها نقاط لم تسحب من رصيده، إلا انّ تظيهرها هو الذي يسيء إلى صورة «التيار الوطني الحر»، حيث يصوّر أمام جمهوره كأنّه تراكم لخسائر ناجمة عن سوء تقدير، وسبب غير مقصود لإحباط قد يعود مجدداً إلى وجدان العونيين. وهنا علّة أخرى في أداء هذا الفريق.
إلا انّ هذه المراجعة لا تعفي أبداً حلفاء قائد «البرتقاليين» من مسؤولية حشره في زاوية «الغناء سولو» على مسرح قراءاته السياسية. فبعض هؤلاء يجيد استفزازه.. عن قصد.

 
 

Latest Comments


Post a Comment

Name *
Email
Comment *