لا يعتبر مفهوم «المجتمع المدني» مفهوما جامدا او جاهزا. ولا هو نموذج عالمي ناجز وناجح يفترض تبنيه أو اتباعه. انه مفهوم تاريخي، متطور وديناميكي، له تاريخيته وله توظيفاته المتعددة بحسب تراكم التجارب والاجتهادات. هو مفهوم مركب ومعقد في آن، لا يخلو من غموض ولا التباسات تحوله من مفهوم منقذ عند البعض إلى مفهوم تهمة عند البعض الآخر.
فهو عند البعض المفهوم الذي اخترعه الغرب الليبرالي لضرب الدول الاشتراكية بالرهان على قوة المجتمع ضد الحزب والدولة المهيمنة، وهو محج خلاص عند البعض الآخر ضد هيمنة الدولة الديكتاتورية الدينية او العسكرية والأمنية.
استخدم مصطلح المجتمع المدني كايديولوجيا لمناهضة الدولة المستبدة، كنوع من تنظيم شعبي ذاتي وعفوي. كما استخدم كسياسة مناهضة للسياسة التي تعبر عنها الأحزاب والدول القابضة على السلطة ومقدرات الدول والناس. في وقت اعتبر آخرون ان " وظيفة الدولة ان تحمي المجتمع وان تعبر عن مصالحه".
إلا ان التعريف الأكثر تخففا من الأثقال الايديولوجية لناحية التفسير والتوصيف والتوظيف، هي اعتبار نشأة مفهوم المجتمع المدني تلك التي ارتبطت بنشأة وتطور المدن وتوسعها. فالحياة في المدن التي زادت تعقيدا، كانت تتطلب تنظيما معينا، لا تستطيع غير الإدارات العامة والدول القيام به، مع سلة من القوانين الناظمة والإجراءات الملزمة، بالإضافة الى الحاجة للقطاع الخاص للاستثمار في اعمار وتطوير هذه المدن. من هنا نشأت الحاجة الى قطاع ثالث يوفق بين القطاع الرسمي وذاك الخاص، هو القطاع المدني، او ما يسمى المجتمع المدني الذي كان عليه ان يدافع عن نفسه وان يحمي مصالحه تجاه السلطات المستبدة والقطاع الخاص الرأسمالي الذي لا يبغي الا الربح كقيمة عليا.
واذ يعتبر هذا التفسير هو الأقرب الى الواقع والذي يفترض البناء عليه والذي نقترح تبنيه، يصبح الهم الاول لقوى المجتمع المدني هو تحقيقه، اي المساعدة في تنظيمه وجعله مدنيا بالفعل، وتمكينه كقوة للتفاوض والتوسط والتوفيق والحماية والتغيير.
من اجل ذلك هو يتطلب إيجاد آليات لحسن التواصل مع المجتمع وتمثيله والاهتمام بان يكون لديه صفات ومواصفات ومميزات والتزامات أساسية يفترض ان يدافع عنها او يتبناها، ولديه مطالب من القطاعات الأخرى يفترض الضغط من اجل تحقيقها.
ولعل اهم وظيفة على المجتمع المدني ان يقوم بها، هو انقاذ المدن نفسها، او انقاذ الحياة في المدن. فمن المعلوم ان ما يقارب %70 من سكان العالم أصبحوا يعيشون في المدن، وان هذه الأخيرة هي المتهمة الأولى بالتسبب بالتلوث على أنواعه وبالنسبة الأكبر من الانبعاثات التي غيرت مناخ العالم. وإذ أصبح هذا الموضوع للمدن مسلما به بالمقارنة مع حياة الريف، يبقى السؤال: هل تحقيق المجتمع المدني والدولة المدنية يساهم بشكل أفضل في انقاذ البيئة المحلية والعالمية؟
في الواقع ان مجرد اعتبار المجتمع المدني هو نقيض (او غير) المجتمع العسكري وعليه الا يوافق على حكم العسكر وان يراقب موازنات الأمن والدفاع في الدول المسماة ديموقراطية، لكي لا تكون على حساب مشاريع التنمية المستدامة، فان في ذلك توفير الكثير على البيئة المدنية وغير المدنية. واذا كان المجتمع المدني هو الذي يخضع لأحكام مدنية لا تستمد مشروعيتها الا من المجتمع والأفراد والمؤسسات الاجتماعية، وليس من أية سلطة أخرى مفارقة، سواء أكانت دينية ام مذهبية... فان هذا التفسير يجعل مسؤولية الفرد في المجتمع مضاعفة، لا سيما عندما يعيش «المجتمع المدني» في «دولة مدنية»، تستمد مشروعيتها أيضا من آليات تمثيلية ما للمجتمع، وتحكمها آليات ديموقراطية محددة تتوفر فيها آليات المحاسبة والمراقبة، تؤمن الحريات العامة وتحميها... وتقوم على مبدأ فصل السلطات. واذ يفترض بالمجتمع المدني، لناحية التعريف، ان يغلّب المصلحة العامة على الخاصة ومصلحة المجتمع على الفرد (وان اعتبر المجتمع مجموعة افراد)، او مع حرصه على احترام إرادة الافراد عندما لا تخالف مصلحة الجماعة... فان في ذلك مصلحة أكيدة للبيئة.
انطلاقا من هذه الخلفية لن يعود «المجتمع المدني» غاية بحد ذاته. انه محطة أساسية للانتقال الى المجتمع الحيوي الديموقراطي، المجتمع الذي يأخذ بالاعتبار حياة بقية الكائنات بالاضافة الى حياة النوع الانساني، وحقوق بقية الكائنات التي نتشارك معها في الحياة والمصير تماما كحقوق الانسان. والمجتمع الحيوي الديموقراطي، هو الذي يحفظ حقوق الاجيال الآتية ايضا، كون الاكثريات الحالية هي اقليات بالنسبة الى الاجيال الآتية ولا تستطيع ان تقرر عنها ولا ان تاخذ حقوقها.
ولان مشاكل العالم باتت معولمة، لا بد من ان يكون للمجتمع المدني الحيوي امتدادات عالمية. فنهاية المجتمع الحيوي هي كونية بامتياز، وعلى المجتمعات البشرية ان تكون واحدة ايضا، فيصبح المجتمع المدني عالميا، تماما كما الأمراض والأوبئة والمشاكل البيئية والاقتصادية التي باتت عالمية أيضا. ويصبح المواطن المنتمي الى مجتمع، مهما كان صغيرا، مواطن العالم، وبالتالي لا بد من تواصل ممثلي المجتمع المدني في العالم مع بعضهم البعض لانتاج قيم مشتركة تحترم التعددية الثقافية والبيئية.
حبيب معلوف
السفير: 16/7/2013