"النهار": الأربعاء 10 تموز 2013

مساحة الحرية كتاب الأرض والهوية واللوعة لفقدانهما

 بيار عطاالله سقى دماً قصة أراضي المسيحيين في لبنان

مي منسى

كأننا لا ندرك، ونحن ما بتنا حتى اليوم وغدا، نشارك الشعب الفلسطيني بكاءه لفقدانه البيت والأرض والبستان والذاكرة، إننا على قدر الشعب الفلسطيني سائرون، وسماسرة الأرض وما أكثرهم من لحمنا، هم، يبيعون ضمائرهم بثلاثين من الفضة، يتاجرون بالتراب مقابل حفنة مال، وحليفهم برنامج توسعي، مذهبي يستولي على أراضي المسيحيين بأبخس الأثمان، ضمن مخطط جهنمي بعيد الأمد، طموحه، تحرير الأرض من المسيحي الكافر وتقاليده القائمة على التعايش والسلام، لا على الثأر ونحر الجار.

التاريخ يعيد نفسه، فكم من الفلسطينيين، في بدايات القرن العشرين وقبل أن تتشرعن الدولة الإسرائيلية، باعوا لليهود قطعا من أراضيهم، إلى أن دقت الساعة التي وعوا فيها أن ثمة مؤامرة صهيونية رهيبة مدبرة ضد كيانهم العربي – الوطني، أدت إلى اقتلاع الإنسان من جذوره ورميه في أرض الشتات عام 1948. فهل ننسى واللاجئون في المخيمات ما زال الجيل القديم منهم يراهن على مفتاح البيت المنتظر في عبهم منذ أكثر من ستين عاما؟
"مساحة الحرية" هو ذلك الكتاب الذي أراد به بيار عطاالله،إبن راشيا الفخار، أن يهز الضمائر المستخفة بالهوية، بالأرض، لقد كيّل بالأمتار ذاكرة الإنسان، ووجوده لا بقوافي الشعر كتب ولا بأسلوب الحنين من مهاجر عتيق، هو الصحافي والعضو في مؤسسة حقوق الإنسان، الضالع في التاريخ، جال على جغرافية لبنان، بأقضيتها وبلدياتها، بناسها وطوائفها، وفي كل مدينة وقرية وبلدة مسيحية التقى بمن يخطط لشراء الأراضي والمباني، و" يحتاج الأمر إلى مجلّدات لنقل واقع الحال المؤلم...".
غيرة بيار عطاالله على كل شبر من الإرث اللبناني، المسيحي،والتزامه الكلي هويته، هي في قلمه المعمّد بأنهار لبنان، ننتظرها في مقالاته ومؤلفاته "النفايات السامة في بلاد الأرز"، "لبنان تحت الاحتلال" وكتيبات عن أوضاع حقوق الانسان في لبنان. وها هو في هذا الكتاب، يبث في الأعمى بصيرة، وفي المستهتر هزة وجدان، مريدا من كل لبناني أضاع عنوان البيت والكرامة أن يعود إلى مثل إبن الضال في إنجيل لوقا.
سبعة فصول تألّف منها الكتاب، هي في كل فصل وقفة مؤلمة أمام تغيير وجه لبنان وصمت الدولة المريب وانهيار المقاومة المسيحية و... التهجير والقهر.
وتحت عنوان "جبل لبنان بخير، نحن بخير" جاء على لسان المؤرّخ فؤاد إفرام البستاني ما قاله له ذات يوم أحد أحبار الكنيسة السريانية" إذا كانت بكركي بخير، فنحن مسيحيو الشرق بخير" هذه المحادثة التي نقلها البستاني حملت الكثير من المعاني في الشرق المسكون بالهواجس والمخاوف من المستقبل. ويستند بيار عطاالله عليها قائلا:
"القادة المسيحيون لم يفهموا مغزى كلمات فؤاد إفرام البستاني العميق، وغرقوا في حساباتهم ومصالحهم الضيّقة". وفي سياق هذا الفصل، يعود الكاتب إلى موقف الزعيم الدرزي وليد جنبلاط ما فحواه: "إن وجودنا في خطر، لأن أي مجموعة بشرية إذا ما فقدت أرضها، فإنها تفقد وجودها وأقول للبعض الذي يبيع أرضه أنه عندما يبيع الأرض إنما يبيع كرامته ووجوده"؟

النموذج الإسرائيلي
خلافا للاعتقاد الشائع في أن الكنائس اللبنانية غافلة عما يحاك ضد لبنان، فإن من يستمع إلى مطران المتن كميل زيدان ورئيس المركز الماروني للتوثيق والبحوث سابقا متحدثا بالتفاصيل والأرقام عن عملية "سحب البساط" من تحت أقدام المسيحيين اللبنانيين على الطريقة الصهيونية، لتحويلهم شعبا بلا ارض، يرى أن الأمور ليست متروكة على غاربها، فكل من يبيع ارضه سواء في أقصى عكار أو في أقصى الجنوب ووسط بيروت، هو معروف لدى الكنيسة وكل السماسرة توثّق أسماءهم للتاريخ. بيد أن للتصدي لعمليات السيطرة على اراضي المسيحيين يحتاج إلى الكثير من التخطيط والمبادرات، قبل الانهيار الكبير الذي لا تجدي بعده أي معالجة..."
الأرقام مخيفة، أظهرتها الكنيسة، في إحصاءات تهدد الكيان اللبناني في صميم وجوده وهويته، مشيرة إلى قضاء عاليه المحتل الصدارة الكبرى في الأرقام المباعة للأجانب والعرب، ويليه المتن وبعلبك وغيرها...

باعوا تلة الصليب في كسروان
الحبر الذي يكتب به بيار عطاالله، ينزف دما من عروق لبناني يرى وطنه على شفير الهاوية، "لا دين ولا رب، للسماسرة، لا في جبل لبنان ولا في البقاع ولا الجنوب ولا الشمال" ففي كسروان وصل الأمر بالبعض إلى محاولة بيع عقارات ضخمة في أعالي جرود كسروان ومن مقترفيها أحد النواب ولم تتم البيعة بتدخل البطريرك الماروني بشارة الراعي. وفي بدايات السنة 2013، بيعت شقق كبيرة عند ساحل كسروان إلى متموّلين من السنة والشيعة ما عدا عمليات البيع من خلال أسماء وهمية.
التلّة التي تحمل الصليب إسما لها في دلبتا بيعت من دون خجل أو أدنى أخلاق. يقول عطاالله": ما جرى يصلح نموذجا لعمليات البيع المعممة في "عرين" الموارنة، "العاصية"، نعوت كانت تصح على رجال كسّروا الصخر ونقّبوا التراب وأقاموا الجلال للزراعة وصمدوا في أراضيهم ولم يتنازلوا عن شبر منها على رغم ما عانوه من فقر واضطهاد".
وهل تنفع صرخة الأهالي الشرفاء حين فوجئوا بمرسوم في الجريدة الرسمية في عدد نيسان 2012، صادر عن الحكومة اللبنانية وبطلب من وزارة المال يقضي بالترخيص بتملّك حقوقا عينية عقارية في منطقة دلبتا؟ وينص المرسوم أنه بناء على مشروع القانون موضع التنفيذ بموجب المرسوم الرقم 11614، وبناء على طلب الأمير مقرن بن عبد العزيز آل سعود والمرفق بمستندات تثبت أن مجموع ما يملكه في منطقة دلبتا العقارية ومساحتها 7700 متر مربع الغاية منها البناء والسكن. وقد مهر كل من رئيس الجمهورية ميشال سليمان بتوقيعه، إلى جانب توقيع كل من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير المال محمد الصفدي. واللافت أن أيا من وزراء التيار الوطني الحر لم يعترض عليها، هم الذين يملأون الدنيا احتجاجات تحت عنوان الدفاع عن حقوق المسيحيين.
فهل بدا الأمير مقرن أمام الاستنكار الذي قام به شبان البلدة لما جرى في بلدتهم، والضجة الاعلامية التي أثارها الموضوع، أكثر أخلاقا من الذين باعوه العقارات، حتى قرّر التخلي عن العقار وإعادته إلى اللبنانيين؟ لقد طلب بواسطة وكلائه تخمين تلة الصليب ليصار التفاوض على بيعها.
مساحة الحرية كتاب للذاكرة، حتى لا ينسى المواطن اللبناني مهما ضعفت مواطنته واستغنى عن معانيها "البائتة" بأنه من هذه الأرض وهنا يرقد أجداده وله في بقعة منها مرقد له حين يأتي وقت الرحيل.
فهل نذكّر السمسار والمستخف وعاشق الملايين بقصيدة الشاعر مالك طوق، إبن بشري، "كمشة أرض سمرا"؟
مرّا سألني وقال / إنت منين؟ / بشوفك قوي/ وبتشد قد تنين/ بلاقي عينك معرّقة بالنور/ وصوتك بيفجمّ المعدور/ مين إنت؟/ ووين أهلك وين؟/ أنا؟/ من بيت فوق الصخر مبني /بدين الريح/ لبني حد لبني... / أنا من هون/ من هالأرض هيدي/ بينضح كبريا قلبي وزندي / أنا من هون/ من لبنان / يا بنيّ.