احمد بزون  -  السفير

قد يصح القول إن الفنان أسعد رنو آخر الكلاسيكيين الكبار في لبنان، فهو تعصب لتلك المدرسة من دون أن ينبذ المدارس الأخرى، حتى أنه بقي يعتبر أن الفنون الحديثة والمعاصرة سوف تندثر ويبقى نهر الكلاسيكية جارياً بقوة. قد لا نكون من مؤيدي مدرسته وأفكاره، غير أنه لم يكن يوماً مدعياً أو راكباً موجة، فهو كلاسيكي من الطراز الأول، لا يتعصب لها ليكون مجرد تابع أو نصير أو هاوٍ، إنما كان أستاذ الكلاسيكية في لبنان، بل هو علّمها لمئات الطلاب الذين درسوا عليه في «أكاديمية مايكل آنج للفنون الجميلة»، التي افتتحها في زحلة العام 1962 قبل أن ينقلها إلى بيروت، وفي مدارس ومعاهد شتى.
لم يكن رنو، الذي رحل أمس عن 86 عاماً ضيفاً على الفن التشكيلي في لبنان، ثم لم يكن الفن مجرد هامش في حياته، بل كان المتن، كان حياته ووقته ورغبته وشغفه. كان يعيش الفن بفكره وأحاسيسه، فهو جمع إلى المعرفة التقنية معرفةً واسعة في تاريخ الفن، حين ألف كتباً عن تاريخ الفن الإسباني، وسلسلة «قواعد الرسم»، وثلاثة أجزاء من «تاريخ الفن العالمي».
لم يكن يهمل، مع أستذته في الفن، إنتاجه الفني، إذ وجد الوقت ليبدع ما يقارب 3500 عملاً، توزعت بين البورتريات والمناظر الطبيعية، وفي الوقت الذي نفذ فيه عدداً من العاريات لم يهمل إنتاجه لفن كنسي اشتهر به. كان دقيقاًً إلى حد بعيد في تقديم الشكل الواقعي بكل تفاصيله، بأمانة مرة وبانطباعية مرة أخرى، ولاعباً ماهراً في صوغ العلاقة المتواجهة والمكملة بين الضوء والظل، بشفافية لونية وشعرية حاضرة.
منذ البداية اهتم الفنان رنو بعلية القوم، فرسم لوحة تمثل الصداقة الاسبانية - اللبنانية وأهداها إلى رئيس الرئي الإسباني الجنرال فرانكو، ثم رسم العديد من الرؤساء والشخصيات المهمة، ونفذ رسوماً في القصور، ولاحقت ريشته الجميلات، بالتوازي مع حضوره في الكنائس بقرابة 80 جدارية. ورسم القديسين، لا سيما القديس شربل، كما رسم البابا مع البطريرك صفير لدى زيارة الأول لبنان، فنال وساماً منه قلده إياه البطريرك صفير، من دون أن ينسى أن يرسم الإنسان العادي بالطبع وحالات إنسانية مختلفة ورموزاً وطنية.
تعلم رنو على أساتذة كبار في مدريد، وحصل على درجة الأستاذية فيها، لكنه التقى بيكاسو في باريس العام 1950، وزاره في محترفه، وهو يراه «الأب الكبير للكلاسيكية»، لكنه يرى أن مكانته نقصت مع إطلاقه للمدرسة التكعيبية.
وإذا كان أقام في لبنان 13 معرضاً فردياً، فهو كان نشيطاً في الخارج، وشارك في معارض مختلفة، لا سيما في إسبانيا التي درس فيها، وهو يتقن لغات ثلاثاً بالإضافة إلى العربية، الفرنسية والإسبانية والإيطالية. وأقام رنو متحفه في دير القمر ليضم ما تبقى من لوحاته، أي قرابة 1700 لوحة، في المبنى نفسه الذي كان سكنه الصيفي ومحترفه.
وإذا كان رنو قد رسم العديد من الشخصيات التاريخية كفخر الدين وبشير الشهابي والعديد من الرموز، فإن الشخصيات اللبنانية التي رسمها تشكل ذلك التاريخ الحديث للبنان، كما أنه رسم بعض اللوحات التي يتعمد فيها تجسيد التاريخ، وكانت بعض لوحاتها تروي أحداثاً أو تقيم علاقة بين الماضي والحاضر، فيركب اللوحة من شخصيات عدة، كتلك التي ترسم الخط «المتواصل» من الأمير بشير إلى بشير (الجميل).
المهم أنه رسم بحساسية جمالية رفيعة ومترفعة، حتى وهو يرسم الطبيعة الصامتة كان مبهجاً. فلا يرسم ليمثل شخصياته فقط، وإن كان بارعاً في ضبط الملامح ودوزنة التفاصيل، إنما كان يرسم بكل أحلامه ومخيلته ومشاعره، ويضفي على شخصياته روحاً تميزه.
رحيل الفنان رنو يُحدث فراغاً مهماً في تنوع الفن في لبنان، ويُفقد الكلاسيكية في التشكيل أحد حراسها الأشداء.