
كانت لاحد خدّام كنيسة قصرالمير . كانت للأب ليباوس أبو سليمان!
"ضمنا مجلسٌ جرى فيه حديث عما نحن بصدده وكان من المتحدثين فيه
بحاثة لبناني معروف له مقالات قيمة في تاريخ لبنان نشرها في كثير من
الصحف والمجلات هو الطيب الأثر الأب انطونيوس شبلي الراهب اللبناني.
فروى لنا الكثير مما يعرفه من أخبار ذلك العهد.
ومما حدّث به رحمه الله في ذلك المجلس ان للأمير بشير ساعة اهداها في
العقد الثالث من القرن الفائت الى راهب لبناني هو الاب ليباوس أبو سليمان
المتيني، وقد حرص الرهبان على تلك الساعة فحفظوها بكل رعاية ولبثوا
يتوارثونها من تلك الأيام كأثمن أثر من الأمير العظيم، وكانت عهدئذ محفوظة
في دير مار مخايل بنابيل من أعمال المتن مع راهب لبناني هو الأب مبارك
الغريافي.(1)
وها نحن نروي للقراء حكاية انتقال هذه الساعة من الأمير إلى حيث
هي الآن، نقلا عن لسان المرحوم الأب انطونيوس شبلي بقدر ما وعته
الذاكرة من حديثه قال:
"لقد روى لي مرارا بعض الشيوخ من رهبان رهبانيتنا اللبنانية نقلا عن
أسلافهم القدماء ان الأمير بشيراً طلب من صديقه الأب اغناطيوس بليبل
الرئيس العام على الرهبانية في أيامه طوال 22 عاما، طلب راهباً فاضلاً من الكهنة
على بسطة من العلم ليُفَقّه زوجته الشركسية السيدة حُسنجهان في أمور الدين
ويُدَرّسها العربية ويكون في الوقت نفسه مرشدا" روحيا للقصر" على العادة
التي اتبعها الأمير منذ توليه الأحكام. فاستدعى الرئيس العام اغناطيوس القس ليباوس
أبا سليمان أحد آباء رهبانيتنا السابق الذكر، من رومية العظمى وكان قد عين
فيها وكيلا عاما للرهبانية وبقي هناك نحوًا من 15 سنة وأكثر ، وهو الذي
قُلنا انه أول من ترجم عن الايطالية الى العربية كتاب الشهر المريمي
وما فيه من أخبار أورياما" للأب موزللي اليسوعي الذي كثر الإقبال عليه
في لبنان فطبعه مترجماً لأول مرة سنة 1842 ثم أعاد طبعه مرة أخرى.
وقد رقي الأب المذكور جزاء أتعابه وإقراراً بفضله وفضيلته الى منصب مدبّر.
خدم الراهب ليباوس أبو سليمان القصر الأميري بإخلاص استوجب رضى الأمير عنه.
وعند انتهاء مهمته وتصميمه على الرحيل أراد الأمير مكافأته فالتمس الرّاهب إعفاءه من قبول شيء من المال لأنه، بحالته الرهبانية، في غنى عنه. فأمر الأمير بأن تتقدم له بعض الهدايا وأنعم عليه بساعة كان يحملها لأن الامير بالطبع كان يقتني أكثر من ساعة ، فشكره الراهب وحفظ الساعة بكل حرص مفاخراً بها حتى قيُّض الى ربّه.
وانتقلت عندئذ الساعة الى راهب آخر كان الأب اجناديوس سلامه من المتين وبعد أن مات الأب سلامه ظفر بالساعة من بعده راهب من أبناء المتين هو الأب بطرس الغريافي المتيني ثم ورثها عن الاب بطرس الآنف الذكر من جديد ابن أخيه من الرهبانية نفسها وهو الأب مبارك الغريافي.
وقد أكد لنا الأب انطونيوس شبلي ان بعض أمراء الأسرة الشهابية حاولوا شراء الساعة العزيزة من الاب مبارك فاعتذر عن بيعها وانه رفض ايضا بيعها من طالب آخر لقاء حَسَن يناهز الف ليرة لبنانية.
والآن، بعد ان مرّ على وصول هذا الخبر الينا سنون عديدة لا نعلم ما حلّ بالساعة ولا بحاملها وغاية ما نرجوه أن تسعى الدائرة المختصة بمتحف بتدين الى السؤال عنها واقتنائها للمتحف إن عثرت عليها بأي ثمن، لأن ذلك يكاد لا يُحدث تأثيرا ذا بال الاعتماد الحكومي المُخصّص بشراء مثل هذه الأثريات"(2).
انها رواية تطابق أحداثها الواقع التاريخي فليباوس كان على زمن بشير واغناطيوس بليبل. وهو أي ليباوس وبحسب دفاتر الرهبان ذهب الى روما وكيلا ونقل كتاب الشهر المريمي الى العربيّة ودرّس في مدرسة المتين بعد مدّة . أما الساعة فلا نعرف عنها إلا ما رواه شبلي وما نقله لحد خاطر.
وإننا إذ نورد هذه الرواية فللدلالة على أمرين أساسيين:
الأمر الأول هو أن السيّدة "حُسن جهان" زوجة الأمير شركسية إنتقلت الى المسيحية بإصرار من الأمير بشير ويروي الرّاوون أن "حُسن جهان "عاندت لتبقى على لغتها ودينها وعاند الأمير الى حد القصاص. فجعلها خادمة في القصر تعمل في الطبخ والغسل وما الى ذلك حتى خضعت ودرست ثم تعمّدت على يد الأب ليباوس أبو سليمان . والسيدة "حُسن جهان" هذه بقيت على عهد الأمير فرافقته وخدمته في منفاه وبعد موته عادت الى لبنان ومكثت في كفرشيما حتى وافتها المنية فجرى لها مأتم على دين المسيح. "حُسن جهان" اشتراها الأمير بشير من تركيا جارية ومعه اصبحت "الأميرة" وبعده ماتت على كبر(3).
والأمر الثاني، أنه كان من النادر أن يخوض غمار البحر في النصف الأول من القرن التاسع عشر جبليون بقصد التعلّم. ليباوس أبو سليمان سافر وتعلّم وعلّم وعاد الى بيت الدين مرافقا مدرسا للأميرة "حُسن جهان" وفردا من أفراد البلاط ثم رئيسا لدير مار موسى ومعلّما في مدرسة المتين .
************
(1) إن خمسة من آل الغريافي مسجلين في المتين على قوائم إحصاء 1921. يوسف الغريافي (والدته ورده سلامه والده ناصيف) من مواليد المتين 1876. كما ورد على قوائم الإحصاء اسماء فارس والياس وسلمى ورشيد الغريافي. أما الأب مبارك الغريافي فلم يظهر اسمه في إحصاء 1921 وربما يكون قد تم تسجيله في احصاء عام 1913 زمن العثمانيين. وقد أكدت لنا السيّدة لينا شعيا الناكوزي أن عائلتها المسجلة في المروج تنتمي في الأصل الى آل الغريافي البقاعيين.
(2) لحد خاطر: بين أمير وراهب، بيروت:1988، ط2،، ص213.
(3) أوراق لبنانيّة يوسف ابراهيم يزبك