.jpg)
غادر نصري ابو سليمان لبنان في أواخر نيسان 1962ولم يعد الى الديار إلا في حزيران 1969.
يوم عاد، كان في استقباله على شرفة مطار بيروت جمهور واسع من أهل المتين ومن خارجها. كانوا من الأقارب والمحبّذين والمحبين واصدقاء العائلة ورفاق الحزب من كل أنحاء لبنان.
أذكر ان الخراف نحرت على مدخل المطار ، والموسيقى الهابطة من "فوق"! صدحت ونصري على الأكتاف والمارّون يتساءلون من الآتي؟
وصلنا الى المتين عشيّة ذلك اليوم وكان احتفال لم تشهده حارة اسعد شاهين مطلقا قبل ذلك التاريخ.
لقد رُفع نصري عن الأرض في ذلك البهو الكبير ، أمسكوا به من رجليه ورفعوه واقفا ، وواقفا خطب في الناس لوقت طويل.
واستمرت الحارة تستقبل وتودّع . لم تفرغ يوما ولم أمرّ يوما بغرفة الطعام فيها طيلة ذلك الصيف إلا وكان لي حصة من تلك الأطايب التي نادراً ما كنا نحظى بمثلها إلا في أوانِها او على موائد الأعياد.
نشط نصري في البحث عن ارض يشتريها . وما لبث أن قرّ قراره على ارض في رأس الضيعة قرب املاك بيت يوسف لطف الله ابو سليمان بجوار بشلاما فاشتراها وبدأ يُعدُّها ليقيم عليها بيته. كان المشرف على الأرض والعمار وكل شاردة وواردة في ذلك المشروع الذي لم يبصر النور بسبب الحرب ، محمد الحلبي المتيني ، رفيق نصري ابو سليمان في الحزب السوري القومي الإجتماعي.
تتالت رحلات نصري من ساحل العاج الى لبنان حتى انها وبعد 1969 لم تنقطع إلا عام 1976. في تلك السنة أصابت نصري اول أزمة قلبية كادت أن تقضي عليه.
كان نصري ينتظر طائرة MEA التي تحط في مطار ابيدجان كل خميس محمّلة بصحف لبنان على مدى الأسبوع. وفي أواخر آذار تلك السنة وصلته الصحف وشاهد الحارة في المتين كومة ردميات . بعد ساعات نقل الى المستشفى .
عام 1975 وكان يصطاف في اوتيل غسطين في بولونيا ،ذهبت اليه فاستقبلني بالترحاب.
قلت له : أخي نصري اريد ان انتج مالا بسرعة ، لبنان انتهى وما أعدّه من اختصاص بات خارج الزمن والموضوع . اود أن أذهب الى افريقيا فساعدني! نظر الي وقال : وعلى من تترك خالتي روز؟ إنها بحاجة اليك .
أقفلَ الحديث بسرعة ليفتح غيره وكان لي من العمر آنذاك إثنان وعشرون سنة. شرع يحدثني في سياسة المنطقة ولبنان وفي الأخطاء الإستراتيجيّة التي ارتكبت منذ عهد فؤاد شهاب والتي بحسب رأيه أوصلت لبنان الى ما هو عليه.
يومها وفي معرض الحديث عن هجرته اكتشفت في نصري إداريا محنّكا ورجلا مختلفا. إكتشفت فيه مثقفا" مطلعا . في تلك الجلسة الجميلة علّمني الكثير ودخلنا معا في مشروع صداقة نضج في بداية التسعينيات يوم وضعت الحرب أوزارها. عاد نصري الى بيروت لا بل الى المتين بالذات حيث شرع بإعادة بناء الحارة يعاونه اشهر المهندسين المعماريين الذائعي السيط ، قريبه جوزف سليم يونان ابو سليمان.
كان لنصري منازل عديدة في لبنان .في الرابيه والنقاش وبدارو. لكن حنينه استمر لأول منزل . المنزل الذي بناه جدّه عام 1939 او الحارة التي عرفت شيئا من عز القز في نهاية مراحله.
في حزيران عام 1994 كان نصري داخل الحارة الجديدة يبيت ليلته الأولى .
وكنت اتردّد على المتين بعد 1994 يجذبني اليها ابن عمّتي إدوار شويتر وابن خالتي نصري. وسرعان ما شيد أخي أنطوان منزله وسكنه عام 1997 أما منزلي فانتهى ترميمه سنة 1998.
وفي إحدى جلساتنا سألت نصري إن كان قد خطر له أن يدوّن ما عاشه من فترات حرجة أيام الإنقلاب فنفى. استدركت للحال وسألت : "هل من مانع إن سردت علي بعض ما تتذكر" ؟ فقال :
كنت من السؤولين الأساسيين في التحضير للإنقلاب ولكنني لم أكن من مؤيدي الفكرة يوم صارحني بها محمد البعلبكي رئيس المجلس الأعلى وقبل ان يفاتحني بالأمر رئيس الحزب عبدالله سعادة.
سعادة كان حانقا على عهد فؤاد شهاب الذي لن يقبل بوصول القوميين الى الندوة النيابية . وشهاب فضلا عن ذلك ، متعاون مع عبد الناصر بطل العروبة آنذاك والذي كان بالفكر والممارسة نقيض العقيدة السورية القوميّة الإجتماعية. زاد في تصميم سعادة ان الوحدة المصرية السورية التي قامت ارتجالاً عام 1958 تحت مسمى "الجمهورية العربية المتحدة" انتهت كارثيا عام 1961 وهذا ما سيدفع حكام دمشق "الإنفصاليين الجدد" الى الترحيب بإزاحة شهاب عضد ناصر في لبنان.
وتابع نصري : "لم استطع إقناع عبد الله سعادة بأن قرار الإنقلاب خطوة غير محسوبة جيداً ولم أكن وحدي من هذا الرأي . إلا أن سعاده أصرّ فامتثلنا". " كنت يومها عضوا في المكتب السياسي للحزب الى جانب محمد البعلبكي (صار في ما بعد نقيب الصحافة في لبنان واستمرّ دهرا) وعلي غندور ( مؤسس ومدير عام شركة العالية الأردنية للطيران بعد الإنقلاب) وجورج صليبي وعيسى سلامه السوري الجنسية".
"كان على بعض السوريين القوميين الإتصال بالدول الفاعلة وعلى آخرين التواصل مع العسكريين في الجيش اللبناني وكان عليّ أنا ومحمد البعلبكي إعداد بعض السياسيين اللبنانيين لساعة الصفر".
"ليلة الإنقلاب إتصلت بالصديقة "مود فرج الله" عساها تستقبلني وبعض الزوّار فوافقت . وصلت الى دارتها في أوّل السهرة برفقة المؤرخ الأستاذ جواد بولس ابن زغرتا والسيد سليمان العلي نائب عكار."
" لم انتظر طويلا لأدعو جواد بولس الى ردهة جانبية وقلت له : يقوم الشباب الليلة بانقلاب ضد فؤاد
شهاب وعهده. والحزب قرّر ان تكون انت رئيس الجمهورية العتيد إن نجح الإنقلاب. فهل توافق؟ فردّ
بالإيجاب.وعندها اعلمته بأننا نفكر في أن يكون سليمان العلي رئيس حكومة عهدك وثلاثة حزبيين هم عبدالله
سعاده محمّد بعلبكي وأنا وزراء في الحكومة التي سوف تشكلانها، فرحّب".
"أخبرته عند ذلك أنه قرابة منتصف الليل سيتصل بي أحد الشباب ليقول : "صحة بيّك مليحا" إن نجح
الإنقلاب أو "صحّة بيّك تتراجع" إن فشل. ثم جلست وسليمان العلي وقلت له كلاما مشابها فوافق. وعدنا بعد ذلك الى غرفة الإستقبال نتابع سهرتنا بانتظار الخبر اليقين".
"تأخر رنين الهاتف حتى انبلاج الفجر. وعندما رفعت السماعة انبأني الصوت بوفاة والدي.
أبلغتهما وشكرت "مود" وخرجنا كل في سبيله.
شربل نجّار
"إنتهى"