رجل نقيض الإنقلاب الفاشل- 2




رجل نقيض الإنقلاب الفاشل(2)

وَيْنُوّي نصري؟

نصري لم يكن في بيته في حيّ مار
لويس في الأشرفيّة  قرب شركة مياه بيروت أو ما يُعرف حتى اليوم  بحاووز المي.   ذهب الى منزل خالته أسما التي كانت تسكن بجوار كنيسة مار متر وبات ليلة 31 كانون الأول 1961/ 01  كانون الثاني 1962 في منزلها العائلي .

وباكرا في صبيحة  اليوم التالي ،  يوم رأس السنة ،  خرج  نصري من الباب الجانبي لمنزل يوسف خليل بونادر واسما صروف دون وداع  وما لبث أن لحق به بعد دقائق ابنهما جورج.

كان الجو باردا والمطر خفيفا والطرقات خالية فالناس نيام،  سهرة البارحة كانت طويلة. ونصري يسير ببطء الواثق باتجاه شارع مار لويس لينحرف  يسارا في الطريق الموصل الى محلات الدّفوني فمحلات طانيوس  ورد  ثم صعودا  عند زاوية تلك المحلات الى بيت حبيب ساسين أبو سليمان.

كان الوصول الى دارة حبيب في ذلك البناء الشاهق بحسب مقاسات تلك الأيام ،  معقّدا. المدخل  واحد لبيتين لا يفصل بينهما فاصل . والوصول الى  بيت حبيب  يفترض المرور من أمام مطبخ الجيران نحو شرفة مشتركة يحاذيها  صف من الغرف الواسعة تتقاسمها  عائلة حبيب وعائلة طانيوس ومن إحداها  يدلف الزائر الى دارة حبيب الواسعة .
 
صعد نصري الدرج الذي لا ينتهي. حاذى مطبخ الست ايفون  والسيد طانيوس فألقى التحية  وتابع باتجاه دارة حبيب.

فتحت له جنفياف زوجة حبيب ، دخل نصري ليجد في غرفة الإستقبال الى جانب حبيب الذي لا تفارق وجهه تلك البسمة الرضيَة،  سليمان بولس ابو سليمان ورامح بارود ثم  ما لبث أن دخل جورج ابن يوسف خليل ابن خالة نصري .


وهؤلاء الأربعة الذين أحاطوا بنصري  بالإضافة الى أولاد حبيب وجنفياف الأربعة  وأولاد إيفون وطانيوس الثلاثة سوف يشكلون  درع نصري  الواقي لأشهر طويلة.

 في تلك الأشهر الحرجة على نصري والخطرة  على منزلي وعائلتي طانيوس و حبيب ،  عرف منزل الأخير زيارات كثيرة . عاديّة  تقليديّة بمجملها ، مُغرضة مُتجسّسة في بعض نواحيها.

وكان نصري يتوارى في إحدى الغرف كلما طرق أحد الباب المشترك.ومن الزوار مُخبرون بالأجر وجواسيس على القطعة . وكان هؤلاء يدورون على منازل بيت ابو سليمان ليسألوا ويتقَفْوا أثر ذلك الإنقلابيّ الخطير!

ومن الزوّار من كان يأتي متحبّبا أو متباكيا  مشغول البال  أو مراوغا "مستنبشا" كما كانت تقول أمي . وكلهم كانوا يخرجون خالِي الوفاض من منازل ابناء العائلة و دور الأقارب الذين عانوا في تلك الآونة الأمرّين   فتوسّلوا  جدران منازلهم يحتمون خلفها يردّون عن أنفسهم شرّ الأذيّة   وظلم الإتهام.


كان  حبيب نجّارا معلِّما  يملك محترفا على خط الجميزه وهو أقرب الى طلعة العكاوي منه الى ساحة البرج. أما  محل جورج ابن يوسف خليل  ففي شارع أرمينيا أو حي مار مخايل بينما كان سليمان ابو سليمان ورامح بارود يعملان في الحدادة في حي قريب من ساحة الدّبّاس.

التواصل كان خفيا بين هؤلاء المتينيين الأربعة ولكنه كان جاريا ينساب عبر رسائل شفهية يحملها صبيان المشاغل والمحترفات. في النهار يتحادثون بالإشارات وفي الليل بالسهرات حول  لعبة "الطرمب"   التي  عشقها المتينيون واتقنها آل ابو سليمان  وهم في مساكنهم  متجاورون  وكأنهم قرروا في غفلة نقل المتين الى بيروت فنقلوها.

سليمان ابن بولس ريشا أبو سليمان شخصية محبّة ومحبّبة   بعيد النظر يتوقع  الأشياء قبل أن تحصل . رامح شاب كتوم  اسمر المحيّا  ذو ملامح قاسية.  لا يختلف عن خاله سليمان . فهو محبّ  للناس حاد الذكاء معاند إن صمّم   تربطه بنصري أواصر  قربى وأكثر.


أما جورج فهو قريب نصري وصديق رامح. عمل سائقا على خط بيروت طرابلس وطرابلس طرطوس وحلب كما عمل في الجمارك اللبنانية السورية قبل القطيعة بين البلدين .  إنّه العالم بأحوال الداخل والخارج ورفيق نصري منذ ما قبل انتقالهما من المتين الى بيروت  في اوائل أربعينيات القرن العشرين. وفي بيروت استأجرت الخالتان اسما وليزا بيتا واحدا لعائلتين متضامنتين قبل ان تستأجر اسما وزوجها منزلهما في حي مار متر. فعاشا معا وتساعدا واستمرا رفيقين  حتى غياب نصري في نهاية حزيران من عام 2014، أطال الله بعمر جورج.


خلال  كانون الثاني  1962 تساقط الإنقلابيون في يد السلطة كما تتساقط أوراق اليباس.
صغار الإنقلابيين الذين لا يحسب لهم حساباً وهم كلُّ الحساب شكلوا أسراب الطرائد الأولى.. حتى
فاق عددهم الخمسين الفا ضاقت بهم ثكنة المير بشير  بجوار الأونيسكو ففتحت السلطة ابواب ملاعب  المدينة الرياضية وحشرت الكثيرين هناك.

أما القياديون فقد تهاووا ابتداء من الأسبوع الأول من سنة 1962 . اسد الأشقر حوصر في أعالي المتن ، عبدالله سعاده أوقف على طريق بكركي، بشير عبيد انقض عليه رجال الأمن العام  تحت قناطر زبيدة في حفرة عمقها أكثر من مترين . العسكريون لم ينجوا، علي الحج حسن كان برفقة أسد الأشقر فوقعا في الأسر معا،  شوقي خيرالله اعتُقِل وهو يتسكع في أحد شوارع راس بيروت  بعد أن تبرّأ منه أحبّاؤه في تلك المحلّة ، أما فؤاد عوض الخوري الذي جال جبل لبنان سيرا على الأقدام فقد القي القبض عليه  خارج صيدا في نهاية كانون الثاني.  كان متوجها الى صور ليستقل قاربا من هناك باتجاه قبرص.

ونصري ابو سليمان في منزل حبيب ابو سليمان . منزل آمن لا بل منيع وقد استمر كذلك  الى اليوم  الذي طرقت فيه إم نصري بابه. فتحت لها  إيفون  دون ان تستطيع إخفاء دهشتها. فبادرتها أم نصري :" وينوّي نصري"؟

لم تنتظر الست ليزا جوابا صعدت الدرجات الخمس وأعادت السؤال على جنفياف "وينوي نصري"؟


لا أعرف  كيف علِمَت  أم نصري بمكان تخفّي  ابنها ولكنها يوم قصدت منزل حبيب وجنفياف قابلت نصري  ، قبّلتْه وبكت.

في مساء ذلك اليوم  من نهاية آذار عام 1962 طلب نصري الإنتقال الى مكان آخر، فاستأجر رامح بارود منزلا في أحد متفرعات شارع مار لويس،  انتقل اليه  نصري في اليوم التالي.

كان الإيجار باسم رامح ولم يلاحظ أحد دخول نصري الى المأجور  إذ دخله منتصف الليل . وهناك استمرّ في التواري شهرا إضافيا كاملا.

شربل نجار
(يتبع)

Latest Comments


Post a Comment

Name *
Email
Comment *