ابن السرج


ابن السرج

 

سمير عطاالله

10 أيلول 2014

تستطيع اللغة العربية، على غناها اللامحدود، أن تكون قاسية أحياناً. تسمّي المولود الذي يرميه أبواه، لقيطاً. لا أحد يريده، لكن ثمّة مُحسناً يلتقطه عن عتبة باب أو قرب مستوعب قمامة، والتعبير مشابه في اللغات الأوروبية، فرنسي الجذر ويعني "ابن السرج". لأن المسافرين العابرين كانوا يتركون ثمراتهم على القارعة ويمتطون أفراسهم ويمضون.

لم يرِد أحد "لبنان الكبير". تداعى المسلمون إلى "مؤتمر الساحل" ليرفعوا عن صدورهم هذه السمعة. رأوا في اقتطاع الولايات الأربع الرجس الذي رأوه في منح "الوطن القومي اليهودي". وكان الجنرال غورو جاداً في إعلانه أن البلد الكبير، أو المكبَّر، هو هدية للموارنة وثمرة للعلاقة معهم منذ القرن الثالث عشر.

الدروز رأوا أن الموارنة سرقوا حُلم الجبل. والشيعة، الذين لم يعترف بوجودهم الأتراك وأعلنت فرنسا الاعتراف بهم، قالوا: ما لنا ولوطن الحُكم فيه للمسيحيين والشركة للسنّي والحرمان لفقراء الجنوب و"فراريّة" الهرمل. والأرمن قالوا سوف نظلّ غرباء وأقلية ولا نريد مجزرة أخرى ولا تيهاً آخر. حافظوا على حيادكم، كبيراً صار أم ظلّ صغيراً.

مجموعة طوائف صغيرة حُشرت في بقعة أكبر قليلاً من جبل لبنان ومرقد العنزة. والسرج عالٍ لكنه ضيّق. قيل إن البطريرك الياس الحويك رفض دولة مع "وادي النصارى" لأن سكانه من الروم، وفضّل شيعة وسنّة البقاع. والحقيقة أن الرجل كان ملمّاً بالزراعة وبالملمّات وأراد السهل كي لا يموت اللبنانيون من المجاعة مرة أخرى.

لم تنسَ سوريا ما اقتُطِع منها في لبنان الكبير على رغم أنها تعوّدت ما اقتُطِع من "ولاية سوريا" في العراق وتركيا. فجأة، انضوى رافضو لبنان الكبير تحت فكرته. لكن فرنسا الحديثة كانت قد تغيّرت هي أيضاً. وبدَل البطريرك الحويك إلى جانب كليمنصو وقف السنّي رفيق الحريري إلى جانب جاك شيراك. وجاء رئيس فرنسا إلى قريطم يُلقي خطاباً يقول فيه: "برناديت وأنا، مَدينان كثيراً لنازك ورفيق".!

صديق شيراك الآخر كان الأرثوذكسي عصام فارس، ومحاوره الإكليركي كان غفرائيل الصليبي، سيدنا غفريل للرعية. لا تبقى الأشياء كما هي إلا في ذاكرة الطفولة.

وقف فؤاد السنيورة، الذي أمضى الجزء الأكبر من حياته في حركة القوميين العرب، وقف يقول إنه أقرب إلى "الأشرفية"، التي كانت تُسمى يومها الانعزاليين و"التانتات" وتُغْني مسرح الساعة العاشرة بهزْليات إيفيت سرسق وعبدالله نبوت.

المشرقية هلَّت علينا فيما المشرق نفسه يميل إلى الغروب. المشرق كان يعني حواضر المتوسط وما احتضنت من ثقافات ولغات وأديان وحريات وهويات. كان لبنان فسحة على البحر لا زنقة في عرسال. وكان مطلاً على الأمم والحضارات ومنصّة القوميات.

فأين نحن الآن؟ نحن نناشد "أمريكا" والناتو (كان اسمه حلف شمال الأطلسي على أيامنا) مساعدتنا على "داعش" في العراق حيث كانت أميركا، إلى غفلة قصيرة مضَت، احتلالاً. إلى العراق حيث يُفاخر وريث البعث ومناضله الأخير عزت الدوري بالتحالف مع "داعش"، في مواجهة متزمّت آخر يُدعى نوري المالكي، الذي سمَّى حكمه "دولة القانون". ذلك اللقيط الذي لا يريده أحد في العالم العربي، عدو آلهة الأرض.

يقول كاتبنا من واشنطن الأستاذ هشام ملحم: "على مدى عقود أقدمت هذه الأنظمة التي ادّعت أنها "علمانية" على خنق المجتمعات المدنية من خلال احتكار مؤسساتها وتفريغها من مضمونها الثقافي والإنساني. وتشكيل الأحزاب المهيمنة وترهيب الديموقراطيين من علمانيين وتقدّميين وقوميين متنورين...". ماذا يمكن أن يُولد في مثل هذا المناخ؟ يحلّل عالمنا العبقري ابن خلدون سلوك "السودان"، ويعني به يومها أفريقيا، فيقول إن الحر يدفع بالأفارقة إلى الرقص وإلى الكسل أيضاً. الدنيا مناخ. يغيب مشرق الحضارات فيملأ الفراغ مشرق "داعش"، كما يقول هشام ملحم، الذي غيّر الاسم الفرنجي الذي وُلد به "ريشار" إلى اسم يتماشى مع أحلام شبابه، التي كانت ترفض، في ما ترفض، لبنان الكبير والإمبريالية والانعزالية والأشرفية.

كتب الزميل حازم الأمين في رثاء ميشال ساسين إن هذا الرجل الذي بقي "شيخ الشباب" حتى السابعة والثمانين، ترك اسمه على ساحة حيوية لا تموت. نحن "أبناء الحي" في زمن ميشال ساسين، فقدنا فيه أُنس المرحلة. الظلم في بعض الفقْد أنه لا يمكن أن يكون شخصياً أو خاصاً. عندما غاب قبله مانويل يونس، شعرت أنني فقدْتُ قاموساً في تاريخ لبنان وفي أصول السياسة وفي آداب الخطاب. جيل مرصّع بالفكر والرقيّ. كان مانويل يونس من الذين يعتقدون أننا شعب صغير استحق لبنان الكبير، فلا يجب أن ننكره. وكان يؤمن أن لبنان مزهرية تتغيّر ورودها أحياناً لكنها تبقى المنحوتة التي هي أجمل مما فيها.
كنت كلما شعرت بحاجة إلى تفاؤل يخفّف كآبتي بلبنان، أذهب إليه، جالساً في زاويته إلى علمه وفكره وعمق خُلقه الديموقراطي الفسيح الرفيع. وحيدة تمضي القامات في لبنان ومعزولين يمضي أعلام الموارنة: بشارة الخوري. فؤاد شهاب. ريمون إده. وهذا المثقّف النبيل الذي لم يدرِ أنه معلم أيضاً.

Latest Comments


Post a Comment

Name *
Email
Comment *